وشاء الله أن يصاب قزمان، وأن تكون الإصابة بالغة.. فإذا هو يهوي في ميدان المعركة وقد أثبتته الجراح.. ويمر نفر من المسلمين ممن شهد بلاءه طوال النهار، فيقف عليه يهنئه بالشهادة ويبشره بالجنة.. ولكن قزمان لم يشأ أن يخدع القوم بأمر نفسه، فإذا هو يتمتم في إصرار عجيب:"والله ما قاتلت على دين.. وما قاتلت إلا حفاظاً على المدينة أن تقتحم قريش حرمها وتطأ سعفها.. ما قاتلت إلى على أحساب قومي.. لولا ذلك ما قاتلت..".
وينهض قزمان متهادياً يغالب الموت، ثم يأخذ سيفه فيجعل ذبابه في صدره، ثم يتكئ عليه حتى يخرج من ظهره..
وما هي إلا لحظات حتى يشيع خبر قزمان بين الصفوة المدافعين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فلا يشغلهم هول موقفهم عن استجلاء العبرة في مصير هذا الضال الذي خسر الدنيا ولم يربح الآخرة.. إنهم ليجدون في نهايته البشعة حافزاً جديداً يرفع حرارة إيمانهم إلى الدرجات العلى، ثم يدفع بهم إلى قمة التضحية، فلا يرون أعذب من الاستشهاد فداء لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-..
لقد كان يومهم هذا يوم أحد امتحاناً صارماً حافلاً بالدروس الربانية.. ففي هذا اليوم تعلموا أن معارك الإيمان لا تكسب إلا بالنظام والطاعة المطلقة لله ولرسوله، وأن على المؤمنين أن يسموا بأرواحهم فلا يشغلهم طلب الغنيمة عن رضوان الله.. فإذا انحرف ببعضهم هوى الدنيا عن هدف الإيمان كان ذلك عدواناً على سلامة المجموع، وتحطيماً لنظام الوحدة بين المؤمنين, كالشرارة الصغيرة تضرم الحريق الشامل المروع، ومن هنا تأتي السماء بتأديبها الرهيب.. تعم به البريء والخاطئ لا تستثني أحداً؛ لأنها تعتبر الجميع وحدة كاملة، كل جزء مسئول عن كل جزء..