لم يعد هناك معنى لوجودي فوق هذه الأرض، لقد أسستُ على التقوى، وليُذكر في اسم الله، فبيعت التقوى بالفسوق والعصيان، واشتريت الضلالة بالهدى، ولم أعد أسمع إلا ألحان شهوة، ورطانات عجمة، لم أعد أرى إلا سياحاً وسائحات، يستمتعون بالنظر إليّ، ويعجبون بتطاول الحقب عليّ، ويقلبون البصر في آياتي وزخارفي، ويأخذون الصور على أبوابي، وأمام صخرتي، ثم يخرجون بجر الحقائب بالذكريات الجميلة، دون أن تريق عيونهم قطرة من الدمع، أو تنفث صدورهم آهة من الأسى.
لا يستطيع أحد من الناس أن يتصور آلامي وأنا أرى جنود العدو يمشون ذهاباً وجيئة في كبرياء، وأسمع قهقهات الفتيان والفتيات عبثاً واستهزاء، وأحس أطرافي تنقطع عضواً فعضواً، فأصيح - من ألم ونفاد صبر -: ويحكم يا مسلمون! أين أنتم؟! وأين توليتم؟! وأين ذهبت ريحكم؟! لو كانت فيكم قلة المال لأمهلت، ولكن ضاع من صدوركم الإيمان، فهل إلى رجوع من سبيل؟.
في الفينة بعد الفينة، ومن يوم إلى يوم، أسمع دوي قنابل وأزير رصاص، فأهب من نومي مسروراً وأنا أقول: لعلها نذر الحرب وطلائع المعركة، وبشرى اليوم الموعود، ثم يمضي من الوقت ما يطول أو يقصر، وإذا بالحياة اليومية تعودسيرتها الأولى، والناس يغدون ويروحون في أمن وطمأنينة، كأن لم يكن هناك صرعى ودماء غصّت بها بقعة من الأرض، وكأنّ القوم لم تمر بهم ساعة ذعر مجنونه سلبتهم عقولهم وولت، ثم يؤوب إليّ ما كان قد غاب: فتيات تسير الفتنة على آثارهم، وفتيان يلبسون ثياب المجون والعبث، وطوائف شتى من هؤلاء الزائرين والزائرات، فأؤثر إغماض العيون على القذى، وأسلّم نفسي إلى ذهول عميق لا أفيق منه إلا على هزة جديدة.