ومن العجيب أن الإمام الشوكاني وهو علَمٌ في التفسير، يعيب على المفسرين هذا المسلك، ويقلل من قيمة هذا العمل، وهو بيان التزام الربط بين الآيات القرآنية وسورها، بل إنه يصرّح بعدم وجود العلاقة والمناسبة بين آيات نزلت في مناسبات مختلفة وظروف متباينة، ويستدل على قوله هذا بأن ترتيب السور القرآنية في المصحف مغاير لترتيب نزولها، وإذا كان الأمر كذلك:"فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته. ."[١٤] .
والناظر في كلام الإمام الشوكاني يجد أنه مبني على أمرين اثنين:
هما نزول القرآن مفرقا ومنجماً حسب الحوادث والأسئلة والقضايا التي كانت تثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن ترتيب المصحف مغاير لترتيب النزول, وهو من عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
والحق أن ذلك كله لا يمنع من وجود الترابط والانسجام والتآلف بين الآيات والسور القرآنية، التي بلغت أعلى درجة في البلاغة والفصاحة والإحكام.
ذلك أن القرآن الكريم، وإن نزل منجماً ومفرقاً حسب الحوادث والوقائع إلا أن جبريل عليه السلام كان يوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية من السورة، وكان صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه وخاصة كتّاب الوحي إلى ذلك، فيقول:"ضعوا هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة"، أو بين آيتي كذا وكذا من سورة كذا, وذلك لأن ترتيب آيات القرآن من النظم المعجز، ولذلك لم يقل أحد بأنه من صنع البشر.
وإذا كان ترتيب الآيات في سورها توقيفاً - فإنه من غير شك - يكون على أعلى درجات الإحكام والترابط والانساج والتآلف.