ولما كانت هذه أول جريمة قتل ترتكب على ظهر الأرض، فإن هذا القاتل الأثيم لم يعرف كيف يتخلص من جثمان أخيه، فشاءت حكمة الله أن يكون تلميذاً للغراب، حيث يتعلم منه سنة الدفن ومواراة جسد الميت في التراب، فكان ما قصه الله بقوله:{فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} .
وقول هذا الأخ القاتل:{يَا وَيْلَتَى} يدل على شدة تحسره وتألمه، لأن هذه الكلمة لا تقال إلا عند حلول الدواهي العظام، والمصائب الكبار، ولكن هذا التحسر لم يكن ندماً وتوبة وخوفاً من الله، ولكنه كان لإحساسه لأنه صار دون الغراب علماً وتصرفاً، ولو كان ندمه ندم توبة لقبل الله توبته، ولكن الله أخبر عنه أن صار بعمله هذا من جملة الخاسرين, وكذلك دلت السنة المطهرة على أنه سيحمل كفلاً من دم كل نفس تقتل ظلماً وعدواناً، لأنه أول من سن القتل، فدل ذلك كله على عدم توبته.
وإذاً فتحسر هذا الأخ وندمه إنما كانا لعدم انتفاعه بقتل أخيه, وإحساسه بأنه صار دون الغراب علماً وتصرفاً كما أسلفنا.
قال الفخر الرازي:"فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم تقبل توبته؟ أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين.
الثاني: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، فضلاً عن أن قتل الابن يثير غضب والديه وإخوته فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لكونه معصية.
الثالث: أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله.. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم أن لم ينفعه ذل ك الندم" [٢٦] .