إذاً فمن سمع ما ذكر فهفت نفسه إلى جنى الجنتين، فأتت عليه وهو حي هذه الأيام المعدودات العزيزات، فليصمها على الصورة المشروحة آنفاً {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فليصمه، أمر قاطع بالعمل بعد تفهيم بالقول، محتم تنفيذه لا يجرؤ رسول ولا مرسل إليه أن يبدئ فيه أو يعيد، {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة}(القصص:٦٨) , ولما كانت الكلمة الإلهية {فَمَنْ شَهِدَ} يخشى معها الظن بأن الله تعالى سلب ما خفف حين رخص لذوي الأعذار الإفطار، ثم القضاء أو الافتداء، أعادها سبحانه ثانية هنا ليعلم عباده بأنه القائل الذي لا ينقض، والمتفضل الذي لا يرجع، والممد الذي لا يسترد، فأكد منحته {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} , فليصمه من شهده معافى مقيماً، ومن كان غير ذلك فرخصتنا له قد أحكمناها وما نسخناها، ولأي شيء؟ {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وبدهي أن إثبات اليسر هنا ونفي العسر ليس قاصراً على ما يتصل بالصوم وحده، وإنما هي إرادة مطلقة، وأرادها المتصف بالتيسير والمنزه عن التعسير في كل ما شرع، وإلا فنبئوني، ما هو العسر في صلاة صورتها أن تؤدى وهو واقف مكانه، ولا عليه إلا أن ينحني وينزل ويجلس، تتم جميعها على هذا النحو المريح في دقائق، عددها خمس في أربع وعشرين ساعة، مجموع زمان الإتيان بهذه الخمس ساعة أو تقل، وقلّ أن تزيد, وما هو العسر في زكاة يخرج بها المزكي اثنين ونصف، ويبقى لنفسه خمسة وسبعين، وقد انتفخت الجيوب الآن بالمال مما لا يدع الحاضر والباد، ونفس التيسير أو أيسر في بقية أنواع الزكاة، وما هو العسر في حج يؤدى مرة واحدة في العمر كله، وهكذا كل دين الله أمراً ونهياً، وعفا الله عن الذين قالوا عن معنى {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}(الأحزاب:٧٢) , أي لصعوبة أدائها، والتأويل الصحيح هو أن الإشفاق من رهبة العهد خشية عدم الوفاء، وليس