للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم الإيمان بالقدر لا يلزم منه أن يكون العبد مجبورا لا إرادة له ولا مشيئة، وإنما هو كالسعفة تطيرها الرياح هكذا وهكذا، وكالريشة في الهواء، خلافا للقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم، بل له اختيار ومشيئة، وله إرادة وعقل يميزه به، ولكن هذه المشيئة وهذه الإرادة وهذا الاختيار لا يكون به شيء إلا بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال الله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

فهو مخير ومسير: مخير من جانب لأن الله أعطاه عقلا وأعطاه بصرا وأعطاه أدلة ومكنه من الإيمان والعمل؛ فهو قادر وله إرادة وله مشيئة يقدر أن يتباعد عن المعصية، ويقدر أن يطيع وأن يعصي، ويقدر أن يتصدق، ويقدر أن يمتنع. وهو مسير من جهة أخرى، وهي أنه ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله، ولا اختيار إلا بعد اختيار الله، ولا يستقل بالأشياء، فله إرادة خاصة ومشيئة خاصة بعد مشيئة الله وإرادته، ولهذا قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ..الآية؛ فالإنسان سائر ومسير، هو سائر بما أعطاه الله من العقل والاختيار والمشيئة، ومسير بما سبق في علم الله من القدر السابق، فهذا لا يمكن أن يخالفه ولا يحيد عنه.

ومن هذا يعلم المؤمن الفرق بين عقيدة السلف الصالح، وعقيدة المعتزلة والقدرية النفات، وعقيدة القدرية المجبرة.

فالقدرية المجبرة غلَوا في إثبات القدر حتى قالوا: ليس للعبد إرادة ومشيئة، وقد أخطئوا في ذلك، وأصابوا في الإيمان بالقدر، أما القدرية النفات، فغلوا في نفي القدر وأفرطوا في ذلك، وأخطئوا غاية الخطأ، ولكنهم أصابوا في إثبات المشيئة والاختيار للعبد، وأخطئوا في جعله مستقلا بذلك؛ فأهل السنة والجماعة أخذوا ما عند الطائفتين من الحق وتركوا ما عندهما من الباطل.