وقوله له:{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} . فإنه عليه السلام تحاشى أن يصم والده بوصمة الجهل التي يأباها الإنسان حتى ولو كان جاهلا ً حقا ً كما أنه لم يصف نفسه بالعلم تمدحا ً وتعاليا ً على والده، وإنما أخبره أنه جاءه من العلم ما لم يأته هو وأو أتاه ما أتي إبراهيم من العلم لما طلب إليه أن يقوده الهدى، ولكان هو القائد له ولنفسه أيضا ً وهو أسلوب عظيم لا يشعر معه المدعو بأدنى غضاضة، أو أية إهانة، أو انتقاص كرامة، فلا يتعقد نفسيا ً، ولا يتحطم شخصيا ً، ومتى بقيت للمدعو كرامته وشخصيته أمكنه أن يأخذ مع الداعي له ويعطى، وهو طريق الوصول إلى معرفة الحق. وبالتالي إلى الهداية المطلوبة لمن شاءها الله تعالى له.
فإنه بعد إقناعه والده أن ما يعبده لا يسمع ولا يبصر ومن كان كذلك لا يعبد عقلا ً ولا شرعا ً مع استمرار آزر على عبادته أعلمه في هذه الجملة الكلامية أنه إنما يعبد الشيطان، ونهاه عن ذلك معللا ً له النهي بأن الشيطان كان ومازال للرحمن عز وجل عصيا ً، وطاعة العاصي تعرض المطيع للعذاب الذي ينال العاصي، إذ طاعة العاصي للسلطان تعتبر معصية للسلطان نفسه وبذا ينالهما جزاء المعصية معا ً، ولهذا قال له في إشفاق عليه ورحمة به: يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ً، إذ يجمعه وإياه صعيد العذاب، بعد اليم والتوبيخ والعتاب فتتم الولاية بينهما بسبب القرب الذي حصل لهما.