إن الكمال الروحي الذي عاش عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف به قبل نبوته لم يكن نتيجة تربية أم أو أب، أو أثر تعليم أستاذ أو مرب قط، وإنما كان أثر عناية الله تعالى به. فالله الذي أوجده ليكون واسطة بينه وبين عباده في تبليغ دينه وشرعه هو الذي حماه من كل ما يلوث نفسه ويعكر صفاء روحه، وكان ذلك إعدادا له لحمل رسالة الله إلى عباد الله، إذ حمل مثل تلك الرسالة يتطلب كمالا نفسيا، يكون صاحبه فيه مثلا أعلى لغيره من سائر الناس، وكذلك كان رسول الله، وها هو ذا فداه أبي وأمي ونفسي يحدث عن صيانة الله تعالى له وحفظه ليبقى طاهرا زكيا فيتأهل لما هيئ له من الوحي والنبوة، فيقول كما روى البيهقي عن علي رضي الله عنه: يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة جاء ونحن في رعاء غنم أهلها وقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة اسمر فيها كما يسمر الفتيان"، فقال:"بلى"، قال:"فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت ما هذا؟ "قالوا: "تزوج فلان فلانة""فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي". فقال:"ماذا فعلت؟ "فقلت: "ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت"وذكر أنه حصل له مرة أخرى فتم له مثل الذي حصل في الأولى، ثم قال:"فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني [١] الله عز وجل بنبوته".
نزول الوحي:
إن تلك الطهارة الروحية الكاملة التي كان عليها محمد بن الله قبل نبوته وبعثته هي التي هيأته بإذن ربه تعالى للاصطفاء للنبوة والرسالة فكان بعد الوحي إليه ونزول جبريل عليه نبي الله ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.