عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة ذلك البلد الأمين، قضى فيه طفولته وصباه، وشبابه وكهولته وشطرا كبيرا من شيخوخته، وله فيه ذكريات عزيزة يوم كان شابا يافعا، إن حرب الفجار تركت في نفسه رغبة في مقاومة الظلم والوقوف في وجهه، وإن حلف الفضول وما يتضمنه من مكارم الشيم وعظيم الأخلاق قد ملك عليه قلبه حتى أنه قال:"ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".
ثم هذه المروج التي كان يخرج إليها يرعى فيها الغنم، لقد أصبحت جزءا من حياته لا يستطيع مفارقتها بسهولة، وإن ذكرى زواجه بالسيدة خديجة - رضي الله عنها - وما قضاه معها من أيام طويلة وجميلة لا تزال ماثلة أمام عينيه، يرى فيها سعادته بزوجه الرءوم، وأولاده الصغار الأبرياء.
وإنه - صلى الله عليه وسلم - ليذكر يوم اشتراكه في بناء الكعبة المشرفة، ويوم رضيه المتخاصمون حكما ينهي بقضائه ما نشب بينهم من نزاع.
إنه يتذكر كل هذا فيجد نفسه مشدودا إلى مكة برباط وثيق، ويذكر حب قومه له وإعجابهم به، وتسميتهم له بالصادق الأمين فترتاح نفسه، ويطمئن قلبه، ولكن ما بالهم الآن يتآمرون عليه، أو ليس هو هو؟ ما الذي حدث حتى يحاولوا قتله؟؟ ماذا جرى حتى يتربصوا به الدوائر؟
وتدور برأسه - صلى الله عليه وسلم- كلمة ورقة بن نوفل:"ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك"ويتذكر سؤاله له "أو مخرجي هم؟ "وهو أقرب إلى الاستنكار منه إلى الاستفهام، ويجيب ورقة إجابة الواثق المتأكد:"نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا"[١٩] .