ولكن القائد الراشد يستطيع بعمق تفكيره وحسن تدبيره أن يجعل من الضعف قوة، ويجني من الشوك عنبا، ويصنع من الناس ذهبا. فها هو يجعل من المسلمين وهم على حالهم ذاك أمة موحدة الهدف، مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب، متخذة من الإسلام آصرة، ومن كتاب الله إماما ومن العربية لسانا، ومن جميع المسلمين إخوانا. راجعا في هذه الوحدة إلى سالف عزها وسابق مجدها.. تلك كانت أمنيته التي ظل يعمل لها، ويهبها جهده ووقته وسيفه، لا يبتغي من وراء ذلك كسباً شخصياً، وليس أدل على ذلك من أنه بادر بعد القضاء على الدولة الفاطمية، بمصر- بادر بالانضمام إلى علم الدولة العباسية الكبرى في بغداد حتى تكتمل الوحدة، ويتم بتوحيد الكلمة والصفوف أمام الغزو الصليبي، ولا يجد أمام تماسكهم من الهزيمة خلاصا، ولا عنها مناصا. يحدثنا التاريخ بأن بعض وزراء الدولة الفاطمية بدءوا يراسلون الصليبيين سرا، يكشفون لهم عن وجهها، ويرغبونهم في غزوها، فبات السلطان مقتنعا بضرورة القضاء عليها وطي بنودها ومسح وجودها، فلما تم له ذلك لم يبادر بقطع الخطبة عن الخليفة الفاطمي ويدعو لأمير المؤمنين ببغداد، لأن الجو لم يتهيأ بعد لمثل هذه الخطوة إذ لا يزال ملبدا بالغيوم منذرا بالخطر، وبعد مشاورة من يثق في رأيه اهتدى إلى إبطال الزيادة المعروفة في آذان الشيعة:.."حي على خير العمل"جسا للنبض وتحسسا لمشاعر الناس. وتلك نظرة صادقة وسياسة راشدة، لأن الدولة الفاطمية التي حكمت مصر (٢٩٧- ٥٦٧) كانت تغدق المال على المصريين خاطبة ودهم، راغبة في تأييدهم وانتمائهم إلى المذهب الشيعي الذي تقوم عليه الدولة.