أما الصورة الثالثة- حسب تصور وتذوق الدكتور الضبيب- فهي صورة امرأة (متسولة) تلبس ثياب المكدين، و (تمد يدها) إلى الكتاب والأدباء شاكية سوء حظها، شارحة واقع حالها طالبة منهم أن يهبوا إلى نجدتها وإلا فإنها على وشك الموت والهلاك.. ويشير الدكتور الناقد بشرحه هذا إلي أبيات الشاعر حافظ إبراهيم:
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
إلى معشر الكتاب والجمع حافل
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى
ممات لعمري لم يقس بممات
وإما ممات لا قيامة بعده
وهكذا أيضا لم ير الدكتور الضبيب في هذه الصورة سوى صورة (المرأة المتسولة الشاكية الباكية والتي تمد يدها تسأل العطاء..) ..
ويبدو أن الناقد قد نسي أن الخطاب هنا موجه إلى أهل العلم الذين يمكنهم أن يدركوا اللغة من سقطتها.. وأهل الدراية الذين يمكنهم أن يرفعوا من شأن لغتهم.. معشر الكتاب، فجعل الحديث إليهم تسولا!!
كما يبدو أن الناقد هنا نسي أن اللغة تشفق على أبنائها أن يكونوا هم الذين يتسولون عندما يتطلعون إلى غيرهم ويستعيرون أو يتسولون منهم الكلمات والعبارات.. فقلب الناقد الوضع، فوضع اللغة ورفع من شأن المتسولين..
فالشاعر حافظ إبراهيم لم يضع اللغة هنا موضع (المرأة المتسولة) كما فهم الدكتور الضبيب.. وإنما صورها في صورة الأم العطوف الشفوق الحنون التي لا تود أن ترى أبناءها يتسولون..
والشاعر حافظ إبراهيم لم يصور اللغة بالمرأة التي (تمد يدها) تتسول من لئام.. وإنما هي الأم الرؤم التي بسطت رجاءها إلى معشر كرام الكتاب.. أهل العلم والدراية والغيرة..
ثم إنها هي الأم عزيزة النفس كريمة المحتد.. الأم القدوة التي ترسم لبنيها طريق العزة والكرامة وتأبى لبنيها أن يعيشوا عالة على غيرهم، وإلا فلا كان ذلك اليوم الذي يعيش فيه أبناء العربية على فتات الآخرين: