ومنه قولهم أحيانا: يباح له ذلك قضاء لا فتوى، فيعنون ما لو حكم له في الظاهر، لكنه ليس كذلك في الواقع، فإنه لا يباح له..
إذ أن قضاء القاضي تعتبر فيه ملابسات الدعوى والإثبات، مما لا يعتبره المفتي..
والقاضي بفَصله، وفقه هذا الفصل، واستشارته لأهل الفتوى، أو استغنائه عن ذلك باجتهاده، يؤثر في الفقه عامةً، ويقوم في حركة وازدهاره بدور فعال..
بفقه القضاة ازدهر الفقه الإسلامي، أيام كان للقضاة سلطان أو كيان، وكانوا يختارون من الفقهاء المجتهدين أهل السنة والرأي، والفقه والأثر..
فلما فسد الزمان، تضعضعت أركان القضاء، ونتف ريشه، حتى انكمش في صومعةِ ضيّق عليه فيها، فأصبح ذات يوم، وإذا به في ديار تعتبر ديار إسلام، لا تنفذ أحكامه إلا في أنكحة الناس وطلاقهم..
بل وبلغ من تدهوره أن وجد في بعض ديار الإسلام من يتقلد القضاء ويحكم رقاب المسلمين وهو من أهل الذمة، وقد أجمع العلماء على أنه لا ولايةَ لكافر على مسلم، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه..
ولما ماتت أطراف لقضاء الإسلامي وجمدتْ حركته، تدهور الفقه، وضعفت حركته..
وكان اختياري لكتاب في الفقه الحنفي سببه تعلقي بهذا الفقه، وشدة غرامي به وبما كتب فيه: ولهذا التعلق أسباب:
منها: اتجاه هذه المدرسة الفقهية إلى (الرأي) ، فهي تمثل تيار العقلانية في الفقه، وليس معنى ذلك الأعراض عن الأثر، نستغفر الله من ذلك ونعوذ به، فنصوص النقلين- الكتاب والسنة- هما المصدر والمنهل، لا يملك أحد مخالَفَتها والتمرد عليهما.. لكن العقلانيةَ هي في فهم هذه النصوص، واستخراج مقاصد الشرع منها..
وكل مدارس الفقه واتجاهاته لها نصيب منها بهذا المفهوم..
لكن النسب في ذلك تفاوتت، والمناهج تنوعت، فكانت نسبة إعمال الفكر والعقل في المدرسة الحنفية أكبر، ومنهاجها المرسوم لذلك أكثر إتقاناً و (حكاماَ، وسعةَ وشمولاً، ومتابعةَ لحركة تطور المجتمع..