وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما رواه البخاري بسنده عن ابن الشهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن، سمعت معاوية خطيبا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطى، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.." وتسابق الصحابة في أخذ ما يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده- بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتلقفهم منه واستنباطهم عنه.
فشرفهم الله بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة، فقال عز وجل في كتابه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله: {وَسَطاً} قال: "عدلا.." فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة، وسندهم عال فليس بينهم وبين الله إلا واسطتان النبي وجبريل عليهما السلام.
وقد قال قائل: فكيف جرحتم من بعد الصحابة؟ كما ظهر ذلك من عناية أئمة الحديث بحفظ السنن على المسلمين وذب الكذب عن رسول رب العالمين، ولولاهم لتغبرت الأحكام عن سنتها حتى لا يعرف أحد صحيحها من سقيمها والملزق بالنبي صلى الله عليه وسلم والموضوع عليه مما روى عنه الثقاة والأئمة في الدين، فإن قال قائل: كيف جرحتم من دون الصحابة وأبيتم ذلك في الصحابة والسهو قد يقع منهم كما وجد فيمن بعدهم من المحدثين؟ يقال له: إن الله نزه أقدار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلب قادح، وصان أقدارهم عن وقيعة متنقص، وجعلهم كالنجوم يقتدى بهم.