للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"قد لبَّس (يعني إبليس) على جمهورهم (يعني أهل اللغة والأدب المقتصرين عليهما) فشغلهم بعلوم النحو واللغة من غير المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفس وصلاح القلوب وما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه. فأذهبوا الزمان كله في علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها، فإن الإنسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إلى العمل بها إذ هي مرادة لغيرها، فترى الإنسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل، ولا من الفقه ومع هذا ففيهم كبر عظيم وقد خيل لهم إبليس أنهم من علماء الإسلام، لأن النحو واللغة من علوم الإسلام وبها يعرف معنى القرآن العزيز.

ولعمري إن هذا لا ينكر، ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان، وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب وهو أمر لا زم، وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه، وإنفاق الزمان مع تحصيل هذا الفاضل، وليس بمهم، مع ترك المهم غلط، وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن، ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا، ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل" [٩] .

من حديث هذا الإمام الجليل نلاحظ كيف أن المسلمين بما فيهم العلماء، كانوا في العصور السالفة لا يعتدون كثيرا بمن لا يحمل علم الشريعة من العلماء إلا إذا كان ما يحمله من علم في خدمة علوم الشريعة - وهذا حق - وجماع علوم الشرعية وخلاصتها هو الفقه وأصوله.

فالعالم الجليل في اللغة مثلا، في الماضي، كان لا بد له من التزود بالعلوم الشرعية وإلا فإن الاعتداد بعلمه سيكون ضعيفا، وكذلك عالم التاريخ، والكلام، والمنطق الخ الخ.

وبناء على هذه الروح السائدة، وبناء على اهتمام المسلمين عموما بعلوم الشريعة، أراد العلماء المتخصصون في غير الشريعة أن يدخلوا ميدان الشريعة ويدلوا بدلوهم.