ولقد كان من المحتمل أن يكون هؤلاء الزعماء عقبة في الطريق إسلام قومهم كما كان زعماء مكة حين صدوا المستضعفين عن الدخول في الإسلام، وليس أدل على ذلك من موقف أبي الحيسر أنس بن رافع أحد زعماء الأوس، فإنه قد ذهب إلى مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف مع قريش على قومهم من الخزرج، ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم وكلمهم، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ:"أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له"، عندئذ أخذ أبو الحيسر حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال:"دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا"[١٤] .
هذا موقف لأحد زعماء الأوس، أعرض فيه عن الإسلام، ومنع غيره من الحديث عنه، ولا شك أن غيره لن يكون أقل منه صدودا وإعراضا، لأنهم كانوا يحرصون على المحافظة على مراكزهم القيادية بين قبائلهم، ويرفضون أن ينازعهم فيها أحد.
وموقف آخر لزعيم من زعماء الخزرج - عبد الله بن أبي بن سلول - يحرض قومه على طرد المسلمين من المدينة، فيقول:"هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم".
وبلغ رسول الله ما قال ابن أبي، فغضب وسار بالقوم في وقت ليس من عادته أن يسير فيه، فكلمه أسيد بن حضير في ذلك، فقص عليه مقالة ابن أبي، فقال أسيد:"يا رسول الله، أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا"[١٥] .
إن حرب بعاث قد قضت على هؤلاء الزعماء من الفريقين؛ ولم يبق هناك سوى زعماء من الطبقة الثانية، وهؤلاء قد اصطلوا بنار الحرب، وذاقوا ويلاتها، وسئموها وإنهم ليفكرون في الانتظام تحت قيادة رجل منهم، ولم يكن هناك غير عبد الله بن أبي وقد عزموا على أن يتوجوه، ويجتمعوا عليه.