وموسى - عليه السلام – لا يعبأ كثيرا بهذا التهديد المخيف، مع أنه لا يخفى عليه ما يكون عادة في سجون الظالمين من النكال والتعذيب، وبخاصة وقد سبقه يوسف - عليه السلام – فسجن في أحد سجون الفراعنة ظلما بعد ما تبينت براءته، ولبث في السجن بضع سنين، ولكنه خرج منه موفور الكرامة، محمود السيرة، مرفوع الرأس، حيث نصبه فرعون الذي سجنه وزيرا على خزائن الأرض، فماذا يضير موسى - عليه السلام - لو أدخل سجن فرعون؟ وهل نال السجن من عزيمة يوسف شيئا حتى ينال من عزيمة موسى؟ وماذا لو سجن واتخذ من السجن ميدانا لنشر الدعوة؟ ألم يفعل ذلك يوسف من قبل حين قال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[٢٠] .
لم يلتفت موسى - عليه السلام - إلى هذا التهديد الأجوف، وتذرع بالحلم، وقال لفرعون في هدوء: أتسجنني ولو جئتك بآية بينة تثبت لك صدق دعواي؟ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}[٢١] ؟
ويتظاهر فرعون بأنه لا يرفض البرهان، وأنه مستعد للإذعان للحق متى ما أثبته ببينة مقبولة؛ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[٢٢] .
وهنا يظهر موسى عليه السلام من المعجزات ما لا يماري فيه إلا جاحد عنيد؛ فيحول العصا حية تسعى، ويخرج يده بيضاء مشعة يراها كل من نظر إليها بعكس ما كانت عليه في الأصل من الأدمة - أي السمرة -.
ويتنكر فرعون لما وعد به، ويوحي إلى الملأ حوله أن الذي رأوه إنما هو سحر، وأن موسى ساحر بارع.
ونحن نلاحظ في الآيات التي قصها القرآن الكريم علينا أن موسى لم يواجه فرعون بالسلاح، ولم يذهب إليه بجيش ليجبره على الدخول في دينه، مع علمه تمام العلم أن فرعون ظالم جبار، وأنه لن يسلم للحجة والبرهان، ومع هذا لم يكن معه سلاح إلا الحجة والبرهان.