ويُرَوى أن صالح بن مِرْداس قصد المعرَّة وحاصرها، فعصى أهلُها عليه ثم فتحها، فخرج إليه أبو العلاء ومدحه بأبياتٍ فوهبها له، وكان لا يأكل إلَّا في مَغارَةٍ وحده منفردًا، وكان يعتذر إلى مَنْ يرحل إليه من الطلبة بأنه كان ليس له سَعَة، وأهلُ اليَسَار بالمعرة يُعْرَفون بالبُخل.
وقال غَرْسُ النِّعْمة ابنُ الصابئ: حدثني الوزير أبو نَصْر بن جَهِيرٍ، حدَّثنا أبو نصر المَنَازِي (١) الشاعر قال: اجتمعت بأبي العلاء المعرّي فقلت له: ما هذا الذي يُرْوَى عنك ويُحْكَى؟ قال: حَسَدوني وكَذَبوا علي، فقلت: على ماذا حسدوك، وقد تركتَ لهم الدنيا والآخرة؟ فقال: والآخرةَ أيضًا! وتألَّم.
قال السِّلَفي: من عجيبِ رأي أبي العلاء تركُه تناولَ كلِّ مأكولٍ لا تُنْبِته الأرضُ شَفَقةً على الحيوانات، حتى نُسِب إلى التَّبَرْهُم، وأنه يرى رأي البَرَاهِمة في إثبات الصانع وإنكارِ الرُّسُل، وفي شِعْره ما يدل على هذا المذهب، وفيه ما يدل على غيره، وكان لا يثبت على نِحْلَةٍ، ولا يبقى على قانونٍ واحد، بل يَجْرِي مع القافية إذا حَصَلت كما تجيء، قال: فأنشدني رئيس أَبْهَرَ أبو المكارم الأسدي، أنشدنا أبو العلاء لنفسه:
أقَرُّوا بالإِله وأثبَتُوهُ … وقالوا: لا نبيَّ ولا كتابُ
ووَطْءُ بناتنا حلٌّ مباحٌ … رُوَيْدَكُمُ فقد بطل العِتابُ
تمادَوْا في الضلال فلم يَتُوبوا … فمُذْ سمعوا صَلِيل السيف تابُوا
قال السِّلَفي: ومما يدل على صحة عقيدته، ما سمعت الخطيب حامد بن بَخْتِيار النُّمَيري، سمعت القاضي أبا المهذَّب عبدَ المنعم بن أحمد السَّرُوجي، سمعت أخي أبا الفتح، دخلت على أبي العلاء بالمعرة في وقتِ خلوةٍ بغير علم منه، فسمعته يُنْشِد شيئًا، ثم تأوَّه مراتِ وتلا آياتٍ، ثم صاح وبكى، وطرح
(١) المَنازِي: شُكل في ص بفتح الميم والنون وبعد الألف زاي مكسورة.