ومن ذلك أن إحدى إخواتي وفقهن الله كانت بجانب سرير الوالد ﵀، وهو في مرضه الأخير الشديد، فارادت أن تشرب، وأمسكت الكأس بيدها اليسرى من ذهولها بحاله ومرضه، فأشار إليها الوالد فلم تفهم مراده لذهولها وحزنها عليه، فأمسك بيدها وهزَّها لكونه لا يستطيع الكلام، ففهمت مراده، وأمسكت الكأس بيدها اليمنى! فللَّه درّه كم أتعب من بعده!
ومن ذلك أن من أواخر ما قرأتُه عليه ترجمة الإِمام القدوة الفذِّ عبد الله بن المبارك ﵀ من كتاب "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي ﵀، وهو على فراش المرض في مستشفى العيون، فلما شرعتُ في أولها، ورأى طولها، أحالني على آخرها وطلب مني قراءة أبيات قالها بعضهم في رثاء ابن المبارك وتوقف عندها ﵀ وقدّس روحه، وفي هذه الأبيات موعظة لأولي الألباب، وهي:
وقدْ كنتُ بالعلمِ الذي في جوانحي … غَنيًّا وبالشَّيْبِ الذي في مَفَارقي
ولكنْ أرى الذكرى تُنبِّه غافلًا … إذا هي جاءت من رجالِ الحقائقِ
نعم أيها الحبيب: تنبِّه غافلًا إذا هي جاءت من رجال الحقائق، رحمك الله وجعل موتك ذكرى لقلوبنا الغافلة، وجمعنا وإياك في عِلِّيين في مقعدِ صدقٍ عنده مع النبيين والصديقين! اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله! إن العين لتجود وتدمع، وإن القلب ليحزن ويُكْلَم، ولا نقول إلَّا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا قرة العين لمحزونون!
* رثاؤه:
رثاه عدد من أحبابه وطلابه بقصائد عذبة رائقة رقيقة حزينة، أورد بعضها هنا: