وقيل: إن الوفاة في الآية بمعنى الموت، وهذا مروي عن ابن عباس. وهذا القول يحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن الله توفاه ثم رفعه بعد ذلك إلى السماء.
الوجه الثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً فيكون المعنى: إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، وهذا من المقدم الذي معناه التأخير.
• قال السمرقندي: قوله تعالى (إِذْ قَالَ الله يا عيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ) ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال.
وقد ضعف ابن جرير الوجه الأول فقال: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله، لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله
إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ثم يحييهم.
وقال القرطبي - بعد أن أورد الوجه الأول -: وهذا فيه بعد، فإنه صح في الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزوله وقتله الدجال.
وقيل: أن الوفاة هنا بمعنى: مستوفي أجلك، ومتم عمرك، وذلك بعصمتك من قتل أعدائك، ومؤخرك إلى أجلك المقدر، ومميتك بعد ذلك لا قتلاً بأيديهم.
وهذا اختيار الزمخشري، وأبي السعود، والقاسمي.
وقيل: أن الوفاة هنا بمعنى: متقبل عملك، وقد أورد هذا المعنى ابن عطية وضعفه فقال: وهذا ضعيف من جهة اللفظ.
(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: برفعي إياك إلى السماء.
• قال الراز: المعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
(وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وهكذا وقع؛ فإن المسيح -عليه السلام- لما رفعه الله إلى السماء تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورَد على كل فريق، فاستمروا كذلك قريباً من ثلاثمائة سنة، ثم نَبَع لهم ملك من ملوك اليونان، يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بَدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة -التي هي الخيانة الحقيرة-وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصَلّوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه، فيما يزعمون. وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه الطائفة المَلْكِيَّة منهم. وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيَّدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفار، عليهم لعائن الله.