• قال ابن الجوزي: واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا، ولم يشهدوا، وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
والثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج.
وقد رجح هذا القول ابن جرير وابن عاشور؛ وقال ابن عاشور: وقد دل قوله (فشربوا منه) على قِلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعدَ مجاوزة النهر فقالوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو، وكانوا يسرون الخوف، فلما اقترب الجيشان، لم يستطيعوا كتمان ما بهم.
(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ) أي: قال الذين يوقنون بلقاء الله، مذكرين لإخوانهم بالله وقدرته.
• معنى الظن هنا اليقين. والظن يطلق على اليقين.
كما في قوله تعالى (وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) أي: فأيقنوا، وكقوله تعالى (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ).
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) كم من جماعة قليلة مؤمنة صابرة، غلبت - بإذن الله - وأمره - جماعة كثيرة كافرة باغية.
• قال الرازي: المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا (لَا طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة.
• قال القرطبي: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدوّ كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاريّ: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم.
وفي المُسْند أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم) فالأعمال فاسدة والضعفاء مُهْمَلون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة! قال الله تعالى (اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله) وقال (وَعَلَى الله فتوكلوا) وقال (إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ) وقال (وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ) وقال (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ).