(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)). [البقرة: ٢٥٦].
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ظاهر الآية على أنه لا يكره أحد على الدخول في دين الإسلام، لكن جاء في آيات أخر ظاهرها يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام كقوله تعالى (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).
وقد اختلف العلماء في معنى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟
فقيل: أن هذا الدين لكماله، وظهور براهينه، واتضاح آياته، وقبول الفطرة له لا يحتاج إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق.
واختار هذا السعدي.
وقيل: إن المعنى: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، فمعناه: لا تنسبوهم إلى الإكراه.
وقيل: إن هذه الآية خبر في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين.
قال بهذا طائفة كثيرة من العلماء: كالطبري، وابن القيم، والشوكاني، والشنقيطي، وهو ظاهر اختيار ابن كثير.
وعلى هذا القول فكيف الجمع بين هذه الآية وبين الآيات الآمرة بالقتال والجهاد؟
ذهب بعض العلماء: إلى عمومها وأنه لا أحد يكره على اعتناق دين الإسلام، وأما الآيات الأخرى الموجبة للجهاد فلا تتنافى
مع هذه الآية، لأنها لم تأمر بإجبار أحد على اعتناق دين الإسلام، وإنما جاء فيها الأمر بالجهاد لإقامة النظام الإسلامي وتقريره وحمايته، ولدفع الأذى والفتنة عن المؤمنين.
ورجح هذا المسلك ابن القيم رحمه الله.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الآية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) في أهل الكتاب خاصة، فهم لا يكرهون على الإسلام إذا بذلوا الجزية لقوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وأما الذين يكرهون فهم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، وهم الذين نزل فيهم قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).
وهذا احتيار ابن جرير ورجحه الشوكاني والشنقيطي.
والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمِي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا (لَا إكْرَاهَ في الدِّينِ).
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مِقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي).
قال أبو داود: والمِقلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ.