أحدها: أن يحسد ويقوم بمقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم.
والثاني: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبداً إلا قهراً.
والثالث: حسد الغبطة، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
وفي الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم- (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها الناس) فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) قال أبو العالية: من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً إذ كان من غيرهم.
في هذه الآية أن الكفار يتمنون أن يردوا أهل الإيمان إلى كفر، وهذا جاء ذلك في آيات أخرى:
قال تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).
وقال تعالى (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ).
وقال تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).