(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه أنزلها على رسله.
• واختلف في المراد من ذلك: فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. … [فتح القدير: ١/ ١٧٧].
• قال الطبري: وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معنيّ بها كل كاتم علماً فرض الله تعالى بيانه للناس.
• وقد رجح الإمام فخر الدين الرازي أيضاً: أن الآية تتناول كل من كتم شيئاً من الدين واستدل له بوجوه:
أحدها: أن اللفظ عام والعارض الموجود، وهو نزوله عند سبب معين لا يقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وثانيها: أنه ثبت أيضاً في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف.
وثالثها: أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول (إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى) فحملت الآية على العموم، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة. وتلا (إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى). [مفاتيح الغيب: ١٤٨].