(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) في هذا رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون اللّه.
والمعنى: لا يصح ولا ينبغي ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه اللّه تعالى وأعطاه:
(الْكِتابَ) الناطق بالحق، الآمر بالتوحيد، الناهي عن الإشراك، وآتاه (الْحُكْمَ) أي العلم النافع والعمل به، وآتاه
(النُّبُوَّةَ) أي الرسالة التي يبلغها عنه سبحانه إلى الناس، ليدعوهم إلى عبادته وحده، وإلى مكارم الأخلاق، لا يصح له ولا ينبغي بعد كل هذه النعم أن يكفرها ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ بعد هذا العطاء العظيم الذي وهبه اللّه له كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: لا ينبغي ولا يعقل من بشر آتاه اللّه كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، لأن الأنبياء الذين آتاهم اللّه الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من اللّه، وإخلاصهم له، عن أن يقولوا هذا القول المنكر، كما يحجزهم عنه أيضاً ما امتازوا به من نفوس طاهرة،
وقلوب نقية، وعقول سليمة … لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم اللّه تعالى أخذ عزيز مقتدر فهو سبحانه القائل (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).
• قال ابن كثير: فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى.
ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا -يعني أهل الكتاب-كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وفي المسند، والترمذي -كما سيأتي-أن عَديّ بن حاتم قال: يا رسول الله، ما عبدوهم. قال:(بَلَى، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُم).
فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام، إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام، فالرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتم قيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق.