• وقال السعدي: أي: يمتنع ويستحيل كل الاستحالة لبشر منّ الله عليه بالوحي والكتاب والنبوة، وأعطاه الحكم الشرعي، أن يأمر الناس بعبادته، وبعبادة النبيين والملائكة واتخاذهم أرباباً، لأن هذا هو الكفر، فكيف وقد بعث بالإسلام المنافي للكفر من كل وجه، فكيف يأمر بضده؟
(وَلَكِنْ كُونُوا) أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.
(رَبَّانِيِّينَ) أي: مقبلين على طاعة اللّه تعالى وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذي أنزله اللّه لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له، أي قارئين له بتمهل وتدبر.
• وقوله تعالى وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ استدراك قصد به إثبات ما ينبغي للرسل أن يقولوه بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغي لهم أن ينطقوا به، أي: لا ينبغي لبشر آتاه اللّه نعما لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون اللّه، ولكن الذي ينبغي له أن يقوله لهم هو قوله: كونوا ربانيين أي مخلصين له سبحانه العبادة إخلاصاً تاماً.
• والمراد بالرباني: الإنسان الذي أخلص اللّه تعالى في عبادته، وراقبه في كل أقواله وأفعاله، واتقاه حق التقوى، وجمع بين العلم النافع والعمل به، وقضى حياته في تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم.
• قال الطبري: وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها.
(بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) أي: بتعليمكم الناس الكتاب.
(وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي: ودراستكم إياه.
• قال الرازي: دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- (نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع).
(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً) أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مُقَرَّب.
• وخصص الملائكة والنبيين بالذكر لأن عبادتهما قد شاعت عند كثير من الناس، فقد وقع في عبادة الملائكة «الصابئة» الذين كانوا يقيمون في بلاد الكلدان، وتبعهم بعض المشركين من العرب، ووقع في عبادة بعض النبيين كثير من النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد وزعموه ابن اللّه وكثير من اليهود عبدوا عزيزا وزعموه ابن اللّه.