(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)). [النساء: ٤٧].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا) يقول تعالى - آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب العظيم - وهو القرآن.
• قوله تعالى (نَزَّلْنَا) لأنه نزل شيئاً فشيئاً.
(مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ) التصديق لما معهم له معنيان:
أولاً: أنه شاهد لها بالصدق، وقد شهد القرآن أن التوراة والإنجيل كليهما من عند الله.
ثانياً: أنه جاء مطابقاً لما أخبرت به.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) الطمس: أصله استئصال أثر الشيء وإزالته بالكلية.
• قال السعدي: وهذا جزاء من جنس ما عملوا، كما تركوا الحق، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقاً والحق باطلاً جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون.
• اختلف العلماء في معنى ذلك:
فقيل: هو على حقيقته، فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين.
وقيل: هو عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق.
وعلى القول الأول - وهو الصحيح - فالمراد بقوله (فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) نجعلها قفا، أي: نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا.
وقيل: إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا، والقفا إلى مواضعها، وهذا ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله (فنردها على أدبارها).
قال الطبري: أي: من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسويها كالأقفاء، فنجعل أبصارها في أدبارها فيمشون القهقرى.
• وأصحاب هذا القول: منهم من يرى أن هذه العقوبة تكون في آخر الزمان، ومنهم من يرى هذه العقوبة تكون في الآخرة، ومنهم من قال بأن هذه العقوبة مقيدة بعدم إيمان أحد منهم، وقد آمن بعضهم كعبد اللّه بن سلام وغيره.
• وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، فسمع رجلاً من أهلها حزيناً، وهو يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) الآية. قال كعب: يا رب آمنت، يا رب، أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين.
• فإن قيل: لم يؤمنوا ولم يقع الطمس؟ قيل: لما آمن بعضهم رفع الطمس عنهم.
(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) أي: نطردهم من رحمتنا، ونوقع بهم من النكال والعقوبة ما وقع لأصحاب السبت، والذي وقع لأصحاب السبت هو أنهم قيل لهم (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فكانوا وانقلبوا قردة ذليلين حقيرين مطرودين من رحمة الله، لما تحايلوا على الاصطياد يوم السبت، (والحيلة: التوصل إلى أمر محرم بفعلٍ ظاهره الإباحة).
قال تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).