• قال الرازي: واعلم أن الذين كانوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فريقان: أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس، فإن النوم لا يجيء مع الخوف، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً) وقال في قصة بدر (إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مّنْهُ) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم، ثم إنه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين.
(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي: يظنون بالله الظنون السيئة مثل ظن أهل الجاهلية.
• قال ابن كثير: وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد أهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمر الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.
• وقال ابن عاشور: وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله: كيف كان قتالكم له؟ فقال أبو سفيان: ينال منّا وننال منه، فقال هرقل: وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ.
فظنّهم ذلك ليس بحقّ.
وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية،
(يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي: ليس لنا من الأمر شيء، ولو كان لنا اختيار ما خرجنا لقتال.
• قال القاسمي: أي: هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء، استفهام على سبيل الإنكار. أي: ما لنا أمر يطاع. ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الواقعة، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يخرج إليهم، كما تقدم. ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج، قال: هل لنا من الأمر شيء؟ يعني أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها.