وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب، لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعاً به مسروراً بأحواله، فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه.
ورابعها: أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات، ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم، ولذلك قال تعالى (وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ) الآية، ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله (وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور.
وخامسها: أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان.
(وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أي يستبقون الإناث على قيد الحياة، للخدمة.
• فإن قال قائل: إن بقاء البنت حية أفضل من موتها، فما وجه جعل ذلك من إهانتهم؟
إبقاء الإناث يعتبر عار وتعذيب، لأن موت البنت أرحم من بقائها عند عدو يذلها ويهينها.
• قال الشنقيطي: … فبقاؤهن [أي الإناث] تحت يد العدو يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار ويستخدمهن في الأعمال الشاقة نوع من العذاب، وموتهن راحة من هذا العذاب وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفاً من مثل هذا.
(وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك.
• وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى (وبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
• وقيل المراد بقوله (وفي ذلكم بلاء) إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء، واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور.
(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) أي: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً في سورة الشعراء (فأنجيناكم) أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم.