والجواب الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى (فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد -صلى الله عليه وسلم- ـ لأنه قال (فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ) أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم أنه تعالى قال ثالثاً (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة.
والجواب الرابع: أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم -عليه السلام-، والثاني مقرون بقوله تعالى (وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ للْحَقُّ مِن رَّبّكَ) والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمر القبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً، قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة، نظيره أن يقال: الزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ) ثم يقال: الزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى (فَبِأَيّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) وكذلك ما كرر في قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ).