الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه:
أحدها: أن قوله (وَلَكُمْ فِي القصاص حياة) أخصر من الكل، لأن قوله (وَلَكُمْ) لا يدخل في هذا الباب، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، لأن قول القائل: قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله، وكذلك في قولهم: القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله (فِي القصاص حياة) أشد اختصاراً من قولهم: القتل أنفى للقتل.
وثانيها: أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال، وقوله (فِي القصاص حياة) ليس كذلك، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سبباً لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سبباً لنوع من أنواع الحياة.
وثالثها: أن قولهم القتل أنفى للقتل، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله (فِي القصاص حياة) كذلك.
ورابعها: أن قول القائل: القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله (فِي القصاص حياة) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد.
وخامسها: أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى.
• وقال الإمام السيوطي: وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) فإن معناه كثير، ولفظه قليل، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتل قُتل كان ذلك داعياً إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياة لهم.
وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم: القتل أنفى للقتل بعشرين وجهاً أو أكثر.
(يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى.
• قيل: إنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام لأنهم أهل التأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس.
قال ابن عاشور: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم، لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه، فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب.