وقيل: فإن بدأوكم في القتال في الشهر الحرام، فانتهكوا حرمته، فقاتلوهم فيه ولا تبالوا بحرمته، فإنه قصاص بما فعلوا.
والراجح القول الأول ولذلك قال القرطبي في تفسيره: والقول الأول أشهر وعليه الأكثر.
(وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) الحرمات: جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة.
قال الشوكاني: وإنما جمعت الحرمات؛ لأنه أراد حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام.
والحرمة: ما منعْت من انتهاكه (يعني كل ما حرّم الشارع انتهاكه)، والقصاص: المساواة.
والمعنى: أن هذه الحرمات إذا انتهك شيء منها أو اعتدي عليه يقتص من المعتدي بمثله، فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل في الشهر الحرام، ومن اعتدى في الحرم اقتص منه في الحرم.
• قال ابن عاشور: ومعنى كونها قصاصاً أي مماثلة في المجازاة والانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن، فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به، فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه)، والإخبار عن الحرمات بلفظ (قصاص) إخبار بالمصدر للمبالغة.
(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) أي: فمن اعتدى عليكم من الكفار بقتال أو قتل أو انتهاك عرض أو سلب مال، فخذوا حقكم منه بمثل اعتدائه عليكم، في هيئته، وفي كيفيته، وفي زمانه، وفي مكانه.
• قال القرطبي:(فَمَنِ اعتدى) الاعتداء هو التجاوز؛ قال الله تعالى (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله) أي يتجاوزها؛ فمن ظلمك فخذ حقّك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فردّ عليه مثلَ قوله، ومن أخذ عِرْضَك فخذ عِرضه؛ لا تتعدّى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تَكذِب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تُقابل بالمعصية.
• روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أن قوله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ … ) نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد، ثم نسخ بآية القتال بالمدينة.