وقال تعالى (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه).
(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي: الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم.
• قال الرازي: الحسبان هو الظن، وقوله (الجاهل) لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف، وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة.
وقال القرطبي: قوله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف) أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث
يظنهم الجاهل بهم أغنياء.
وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه، ولا يسأل الناس شيئاً).
(تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)، وقال (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل) وفي الحديث الذي في السنن (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).
(لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) أي: لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفَّفُ؛ اقرؤوا إن شئتم -يعني قوله- (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).
• وقد يفهم من مفهوم (لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) أنهم يسألون من غير إلحاف، لكن ليس هذا مراد لقوله في أول الآية (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) ولأن الشيء قد يرد نفيه مقيداً والمراد نفيه أصلاً وذلك أبلغ في النفي، أي: لا يسألون الناس أصلاً لا بإلحاف ولا بغير إلحاف، (فمفهوم المخالفة هنا غير مراد).