والوجه الثاني: في كون هذه الواقعة آية، أنه -عليه السلام- كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
• وقال الجصاص: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:
أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ لِلْكَثِيرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَجْرَى الْعَادَةِ؛ لِمَا أَمَدَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَهُمْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ اللِّقَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَالَ (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ) وَكَانَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
• وقال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا) ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي: علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به.
وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بينة أي لا لبس في الحق معها وذلك في قوله (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ).
وصرح أيضاً بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل وهو قوله (وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان).
(فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهم المسلمون.
(وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) وهم مشركو قريش يوم بدر.
(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) اختلف العلماء في هذا على قولين:
القول الأول: أي يرى الكافرون المؤمنين أكثر منهم مرتين، جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم.
وهذا اختيار ابن جرير.
القول الثاني: أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم.
• قال الرازي: قوله تعالى (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) يحتمل:
الأول: أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين.
والاحتمال الثاني: أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.
فإن قيل: هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال (وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).
فالجواب: أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين، فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين، ثم إن تقليلهم في أول الأمر، وتكثيرهم في آخر الأمر، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.