ولم يكن بذاك، إن البُغاثَ بأرضكم تَسْتَنْسِر (١)، قال: فطارت هذه الكلمة وصارت بمصر مَثَلًا.
وكان لأبي عُبيد في كل عشية مجلسٌ لواحد من الأفاضل يذاكره، وقد قَسَّم أيام الأسبوع عليهم، منها عشيةٌ لأبي جعفر، فقال له في بعضها كلامًا بلغه عن أُمَناءِ القاضي، وحَضِّه على محاسبتهم، فقال القاضي أبو عبيد: كان إسماعيلُ بن إسحاق لا يحاسبهم، فقال أبو جعفر: قد كان القاضي بَكَّار يحاسبهم، فقال القاضي أبو عبيد: كان إسماعيل بن إسحاق لا يحاسبهم، فقال له أبو جعفر: أقول: كان القاضي بكَّار ويقول لي: كان إسماعيل! قد حاسب رسولُ الله ﷺ أمناءَه، وذكر له قصة ابن الأُتْبِيَّة.
فلما بلغ ذلك الأمناءَ، لم يزالوا حتى أَوْقَعُوا بين أبي عبيدِ وأبي جعفر، وتغيَّر كل منهما للآخر، وكان ذلك قُرْبَ صرفِ أبي عبيد عن القضاء، قال: فلما صُرف أبو عبيد عن القضاء، أرسَلَ الذي وَلي بعده إلى أبي جعفر بكتابِ عَزْله، قال: فحدَّثني علي بن أبي جعفر قال: فجئت إلى أبي فهنَّأته، فقال لي أبي: ويحك وهذه تَهْنِئة؟ هذه والله تَعْزِية، لمن أُذاكِرُ بعده؟ أو لمن أُجالِس؟
قال ابن زُوْلاق: وحدثني عبيد الله بن عبد الكريم قال: كان أبو عُبيد في غاية المعرفةِ بالأحكام، وكان أبو جعفر الطحاوي وَجْهَ النقد في الشروط والسِّجلات والشهادات، فجلس بين يدي أبي عبيد يومًا ليؤديَ شهادةَ فأداها، فلما فرغ قال له القاضي: عَرِّفني، فأعادها، فقال: عَرِّفني، فقال
(١) البُغَاث: طائرٌ أَبْغَث اللون (أبيض وأسود) أصغر من الرَّخَم بطئُ الطيران، جمعه بِغْثان. ويَسْتَنْسِر: يصير نَسْرًا فلا يُقْدَر على صيده. وهو مثل يضرب للعزيز يعزُّ به الذليل، كما في "جمهرة الأمثال" للعسكري ١: ٢٣١، ومراد أبي عبيد بن حربويه: إن الذليل المهمل يصير بأرضكم عزيزًا.