• قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لم يكن مشركاً يوماً؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ .. ) الآية، وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي .. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي … فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ .. ) الآية، ومن ظنّ ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قول الله تعالى عن الكفار (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي: أي هذا ربي على زعمكم الباطل، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليماً جدلياً ليفحم بذلك خصمه، فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون رباً، لقالوا له: كذبت، بل الكوكب ربّ، ومما يدل لكونه مناظراً لا ناظر قوله تعالى:(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ .. ).
ورجح هذا القول ابن قتيبة، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير وغيرهم.
لأن الله نفى عن إبراهيم الوقوع في الشرك في الماضي في قوله (وما كان من المشركين).
ولأن الله تعالى قال بعد سرد القصة (وحاجه قومه) وقال تعالى (وتلك حجتنا) فدل ذلك على أنه في حال مناظرة ومحاجة.
وقيل: إن قول إبراهيم (هذا ربي) هو على تقدير استفهام محذوف، أي: أهذا ربي؟ ومعناه: إنكار أن يكون مثل هذا رباً.
وهذا قول جمع من أهل العلم كالبغوي، وابن عطية، والرازي وغيرهم.
استدل بن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ولا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعاً وإظهاراً لالتجائهم إلى الله كقول إبراهيم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) وقوله هو وإسماعيل (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الآية.
• قال ابن عاشور: فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلاناً لم يَترك للشرك مسلكاً إلى نفوس الغافلين، وأقام هيكلاً وهو الكعبة، أول بيت وضع للناس، وفرض حَجّه على الناس: ارتباطاً بمغزاه، وأعلَن تمام العبودية لله تعالى بقوله (ولا أخاف مَا تشركون به إلاّ أن يشاء ربّي شيئاً) وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً).