وهناك وجه آخر في التفسير:
والتقدير: ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي إلا من كان على ملتكم اليهودية، أما أن يكون من غيركم كهذا النبي العربي فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، لأنهما- في زعمهم- حكر على بنى إسرائيل.
فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتاباً وديناً وفضائل مثل ما أوتوا هم، أي اليهود، ويرون أنفسهم- لغرورهم وانطماس بصيرتهم- أنهم أهدى سبيلاً من كل من سواهم من البشر.
(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: الأمورُ كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام، ويضل من يشاء ويُعمي بصره وبصيرته، ويختم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة.
• وفي الآية إثبات اليد لله تعالى.
قال تعالى (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ).
وقال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).
وقال -صلى الله عليه وسلم- (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) رواه مسلم
المخالفون لأهل السنة:
أولها أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، أن المراد باليد هي القوة أو النعمة.
والرد عليهم:
أ-أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ فهو مردود إلا بدليل.
ب-أنه مخالف لإجماع السلف، فقد أجمع السلف على إثبات اليدين لله، فيجب إثباتها له بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
ج-أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعمة أو القوة في مثل قوله: (لما خلقت بيديّ) لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط ونِعَمُ الله لا تحصى، ويستلزم أن تكون القوة قوتان والقوى بمعنى واحد لا تتعدد.
د-أنه لو كان المراد باليد القوة، ما كان لآدم فضل على إبليس ولا على الحمير والكلاب، لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة ما صح الاحتجاج على إبليس، إذ أن إبليس سيقول: (وأنا يا رب خلقتني بقوتك فما فضْله علي).
هـ-أن يقول أن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة فإن فيها ذكر الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة، لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف.