(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج، فإنه كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن، وإحَنٌ وذُحُول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم، فأبعدهم الله منها: أنْ هَدَاهُم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ، فَعتَبَ من عتب منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله، فخطبهم فقال (يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ " كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ).
• قال ابن عاشور: قوله: (واذكروا نعمت الله عليكم) تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق.
• التَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل.
قال تعالى حكاية عن هود (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح).
وقال عن شعيب (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم).
وقال الله لموسى (وذكرهم بأيام الله).
وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار.
(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) أي: المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها.
• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة، والله تعالى يقول (وما كنا معذّبين إلا أن نبعث رسولا) ويقول (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).
والذي يظهر في الجواب - والله تعالى أعلم - أنه برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت، كما بينه تعالى بقوله (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) الآية.
وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة، فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرِّحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى (لتنذر قوما ما أُنذر أباؤهم).