(فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) أي: فإن خير الزاد وأنفعه للعباد في الحال والمآل والمعاد وأبلغه وأوصله إلى المقصود: تقوى الله، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهي خير الزادين في الدنيا والآخرة، وهي الزاد الذي لا ينقطع نفعه، للدار التي لا تزول ولا تحول، في جنات الخلود.
• قال ابن كثير: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى.
قال الشاعر:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى … وشاهدتَ بعد الموت من قد تزودا
ندمتَ على ألا تكون كمثلهِ … وأنك لم ترصد لما كان أرصدا.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.
قال ابن رجب: وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل.
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
وكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول (مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها).
ومن وصايا المسيح -عليه السلام- لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها، ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً.
ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طرداً.
وكان عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.