رابعاً: التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه، ألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتاً. [الأربعاء: ٢٧/ ١٢/ ١٤٣٢ هـ]
(وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) أي: ويسألك أصحابك يا محمد ما الذي ينفقون.
(قُلِ الْعَفْوَ) أي: الفضل، وما لا يبلغ الجهد واستفراغ الوسع.
والمعنى: أنفقوا ما يفضل عن حاجتكم ولا يشق عليكم.
عن أبي هريرة. قال: قال -صلى الله عليه وسلم- (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول). متفق عليه
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي: مثل ذلك البيان والإيضاح والتفصيل لحكم الخمر والميسر وبيان قدر المنفَق.
(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي: يوضح لكم الآيات ويفصلها في سائر الأحكام كما قال تعالى (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال تعالى (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).
(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (لعل) للتعليل، أي: لأجل أن تتفكروا، والتفكر: إعمال الفكر والعقل، والتأمل والنظر والتدبر.
(فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي: لعلكم تتفكرون فيما هو أنفع لكم في الدنيا والآخرة من البعد عن الخمر والميسر، ومن إنفاق العفو، وتتفكرون في الدنيا وأنها دار ابتلاء وعمل، دار حقيرة، نهايتها الزوال والفناء، وتتفكرون في الآخرة وقربها، وعظم مكانتها، وأنها دار ثواب وجزاء، وخلود وبقاء (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
وقال تعالى (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).
(وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) أي: ويسألك أصحابك يا محمد عن اليتامى، كيف يعاملونهم، إشفاقاً منهم وخوفاً من التقصير في حقوقهم.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وَ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)، الآيَةَ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِه) رواه أبو داود.