للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه، وهو كقول المصلين: سمع الله لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً).

كما قال تعالى عنه في سورة مريم (كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).

• ففي قوله تعالى (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) اختلف المفسرون لماذا دعاء ربه خفياً (أي سراً)؟

القول الأول: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند الكبر.

القول الثاني: لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره.

القول الثالث: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي.

القول الرابع: لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء.

ورجح هذا القول: الطبري، وابن الجوزي، والرازي، والآلوسي، وابن عاشور، والقاسمي، والشنقيطي، والسعدي.

قال الطبري: قوله تعالى (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفي، يعنى: وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل، كراهة منه للرياء.

وقال ابن الجوزي: وهذه القصة تدل على أن المستحب إِسرار الدعاء، ومنه الحديث: إِنكم لا تدعون أصم.

وقال السعدي: … وناداه نداء خفياً، ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلاصاً.

وقال الشنقيطي: والأظهر: أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء.

• وقد ذكر ابن القيم فوائد إخفاء الدعاء فقال:

أحدها: أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.

ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه.

ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق.

رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.

<<  <  ج: ص:  >  >>