الثاني: سلمنا ذلك، ولكنا نقول: كما يحسن الأمر بالشيء، والنهي عن الشيء، لحكمة تتولد من المأمور به، والمنهي عنه، فقد يحسنان أيضًا لحكمة تتولد من نفس الأمر والنهي؛ فإن السيد قد يقول لعبده: اذهب إلى القرية غدًا راجلًا، ويكون غرضه من ذلك حصول الرياضة له في الحال، وعزمه على أداء ذلك الفعل، وتوطين النفس عليه، مع علمه بأنه سيرفع عنه غدًا ذلك التكليف.
وإذا ثبت هذا، فنقول: الأمر بالفعل إنما يحسن إذا كان المأمور به منشأ المصلحة، والأمر به أيضًا منشأ المصلحة.
فأما إذا كان المأمور به منشأ المصلحة، لكن الأمر به لا يكون منشأ المصلحة، لم يكن الأمر به حسنًا، وعند هذا يظهر الجواب عما قالوه؛ لأنه حين أمر بالفعل كان المأمور به منشأ المصلحة، وكان الأمر به أيضًا منشأ المصلحة؛ فلا جرم حسن الأمر به.
وفي الوقت الثاني، بقي المأمور به منشأ المصلحة، لكن ما بقي الأمر به منشأ المصلحة؛ فلا جرم حسن النهي عنه.
فإن قلت: لما بقي الفعل منشأ المصلحة، كما كان، فالنهي عنه يكون منعًا عن منشأ المصلحة، وذلك غير جائز.
قلت: إنه يكفي في المنع عن الشيء اشتماله على جهة واحدة من جهات المفسدة، فهاهنا المأمور به، وإن بقي منشأ المصلحة، إلا أن الأمر به، والحث عليه لما صار منشأ المفسدة، كان الأمر به - وإن كان حسنًا نظرًا - إلى المأمور به، لكنه قبيح؛ نظرًا إلى نفس الأمر، وذلك كاف في قبحه، والله أعلم.