هذا رجوع منه عن قاعدة الحسن والقبح التي سلمها، وبحث على فرضها وتقديرها، فإنها تقتضي ثبوت الأحكام بالعقل، فدعواه الحصر في السمع رجوع عما سلمه، وليس كما قالوا؛ لأنه قد تقدم أن المسلم إنما هو ولاية العقل على الحكم، ولا يلزم من تسليم كون العقل بحيث يحكم أن يكون حكم لجواز تعذر المدرك، كما أن العقل له أن يحكم في علم الحساب بالإجماع، ولا يتوقف على السمع، ولكن إذا اشتد عليه المدرك في تلك المسألة الحسابية لا يحكم اتافقا، وقد نص الحساب على أن المسائل الحسابية ثلاثة أقسام:
منها ما يخرج بالحساب المفتوح وبحساب الجبر، ومنها ما لا يخرج إلا بحساب الجبر، ومنها ما لا يخرج أبدا، فكذلك ها هنا، نسلم لهم أن العقل يستقل بربط الأحكام الإلهية بالمدارك، ولكن إذا تعذر عليه وقف، ولم يحكم كذلك هاهنا لما بين في مسألة شكر المنعم أن المدرك إما لفائدة أو عدمها، والقسمان باطلان، فبطل المدرك، فلا جزم قال بعدها هاهنا لما بينت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع مع أنه لو لم يقتدم منه استدلال لما كان قوله رجوعا عما سلم لعدم التناقض بين تسليم الولاية على الحكم، واستحقاقه عقلا، وبين منع المدرك العقلي، بل لو منع المدارك مطلقا لم يلزم ذلك فاعلمه.
وقوله:"خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها، فلا بد من عرض، ويستحيل عوده إلى الله تعالى ".
يرد عليه ما تقدم في شكر المنعم أن مذهبهم أن حكمة الله تعالى تقضتي له لذاته أن يظهر الإحسان والفضل، وأنواع البدائع في الإيجاد وغيره، وأن هذا من صفات كماله، وصفات كماله عائدة إليه تعالى، فلهم منع هذا المقام بناء على هذا الأصل