للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا تقررت هذه الأقسام، فإن عني بأن الكفار لا يخاطبون بالفروع لعدم إمكان ذلك منهم؛ لأن من لا يعتقد صحة الشيء يتعذر عليه الطاعة به - كان هذا هو المدرك في المنع؛ فإن التصديق مورد تلك الأوامر في نفوسهم، فلا تتعذر عليهم الطاعة.

ومنها أن المأمورات منها ما اشترك فيه الشرائع، كالكليات الخمس، لم تخل شريعة عنها، وهي حفظ النفوس، والعقول، والأعراض، والأنساب، والأموال، فلم يبح الله تعالى منها شيئا في شريعة من الشرائع، فحرم المسكرات في الجميع، وإنما أبيح عند اليهود والنصارى منها القدر الذي لا يسكر، وكذلك الزنا، والسرقة والقذف، والقتل حرام إجماعاً من الأمم الكتابية، فحينئذ هؤلاء الكفار الذين كفروا بظاهرهم وباطنهم أمكن أن يطيعوا في هذه الكليات وغيرها من الأوامر التي اتفقت عليها الشرائع كإنقاذ الغرقى، وكسوة العريان، وإطعام الجوعان، وأكثر أنواع الإحسان مأمور به عندهم، فيطيعون به، ولا يتعذر ذلك عليهم من جهة عدم اعتقاده؛ لأنهم يعتقدونه.

وظاهر كلام الأصوليين أن هذا مدرك المسألة، وهو مشكل كما ترى، ولذلك فرق بعضهم بين الأوامر والنواهي؛ لأن الطاعة بالأوامر لا تكون إلا مع اعتقادها، وفي النواهي لا تتوقف على الشعور بها فضلا عن اعتقادها، فمن حرم الله تعالى عليه شيئا خرج عن عهدته، وإن لم يعلم أن الله تعالى حرمه عليه إذا تركه، فبمجرد الترك يسلم من العقوبة.

ويؤكد أن هذا هو المدرك قول إمام الحرمين في (البرهان): إن الخلاف في جواز المخاطبة عقلا ووقوعه بعد جوازه، ثم قال: واحتج المانعون بأنه لو فرض الخطاب لإقامة الفروع لكان مستحيلا مع الإصرار على الكفر، وهو تكليف ما لا يطاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>