والوصول إلى غاية بعد غاية، وكشف حقيقة بعد حقيقة؛ فيظهر له دائماً خلاف ما ظهر له أولاً، وكذلك قال عمر ـ رضي الله عنه ـ في المشركة:"ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي" ورجع عما أفتى به أولاً، ولم يزل العلماء على ذلك قديماً وحديثاً.
وأما وفور دينه: فلأنه إذا ظهر رجحان شيء، رجع إليه، ولا يخشى أن يقال: غلط أولاً، ثم رجع للحق، بل يقول الحق متى ما ظهر له، ولا يكترث بمن يعتب عليه للاختيار الأول، وهذا عائد الدين، وصلابة الهمة، فهذا بأن يشكر به الإمام أولى وأحرى، وأن يجعل من صفات كماله، لا من صفات نقصانه.
ولقد رأيت جماعة قصدت هممهم عن فهم كلام الإمام، والاشتغال بتحصيل معاني كتبه، فيعيبونه بهذا، وينفرون الناس، ويقولون: هو ينقص كلامه بعضه بعضاً، فلا تشتغلوا به، وطول الزمان ينقلون عن الشافعى وغيره من السادة الكرام عدة أقوال فى المسألة الواحدة، ولا يعد ذلك أحد من معايبهم، بل من كمالهم؛ فلم لا يفعلون ذلك هاهنا؟ بل من جهل شيئاً، عاداه، وعادى أهله لا سيما، وفى هذه الاختلافات تنبيه الطالب على النظر، وتفنن من المدارك، ووجوه الترجيح، وقوة إيضاح الحق، فإن كثرة أقل المباحث مما يزيد الحق وضوحاً عند الفضلاء، وذوى العقول الراجحة، كما أن الأخوث، وناقص العقل، إذا اختلفت عليه المباحث يتيه ويضل، ولايبقى له حاصل ألبته، بل لا يعرف المشي إلا على تفنن واحد؛ كالدابة لا تعرف دار صاحبها إلا إذا لم تختلف الطرق عليها، أما ذو البصيرة الراجحة، فلا.