الأوقات إلا حرمها، ويعاقب عليها، ولا مصلحة في وقت من الأوقات إلا أوجبها ويثبت عليها تحقيقا لكونه حكيما، ولوا ذلك لفاتت الحكمة من جانب الربوبية، وهو باطل، لاتفاق المسلمين على أن الله تعالى حكيم، فنحن حينئذ نسلم لهم أن العقل مولى على ذلك، ولا يلزم من تسليم الولاية على الحكم وقوع الحكم، لتوقف الحكم على مدرك يستنقد إليه، فنحن ننازع في المسألتين في وجود المستند، فلا يقع حكم قبل الشرع، لعدم المستند الذي لأجله يحكم العقل، لا لعدم ولايته على الحكم، ولذلك قلنا: لو وجب الشكر لوجب، إما لمصلحة أو لمفسدة إلى آخر التقسيم والاستدلال، فلم يبين إلا عدم المدرك، ولم ينازع في الولاية، فظهر حينئذ أن المسلم غير المتنازع فيه.
وعن الثاني: أن المسألة الثانية لم تتناول شكر المنعم.
وبيانه: أن معنى قولنا وقولهم في الأحكام قبل ورود الشرائع أن الأحكام تتبع المصالح، والمفاسد الكائنة في أنفس الأفعال، وذلك متحقق في كل فعل على حدثته وإن لم يلاحظ فيه غيره، وشكر المنعم الوجوب فيه بالنسبة إلى مناسبة وملاءمة بين فعل الشكر، وبين فعل المشكرو الذي هو الإحسان السابق في حق الشاكر فأحدهما غير الآخر.
وبيانه بالمثال: أنك إذا أنقضت غريقا من البحر كان تعيين الإنقاذ متضمنا لمصلحته، وهي حفظ حياته عليه، ثم إن كان الغريق أحسن إليك قبل ذلك حصلت ملاءمة أخرى بين الإنقاذ، وبين إحسانه السابق، ومن هذا الوجه كان الإنقاذ شكرا، وهذه الملاءمة الحاصلة بين الفعلين غير المصلحة التي هي في نفس الإنقاذ وهي حفظ حياته عليه، ولذلك أمكن وقوعها منفكة عن الشكر في حق من لم يحسن إليك، وقد يوجد الشكر منفكا عن المصلحة في نفس الفعل في حق من طلب منك فعلا عاريا عن المصلحة والمفسدة.