قلت: نعم؛ ولكن بشرط ألا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول، وأما إذا افتقر إليه، كان التمسك بالدليل الثاني تطويلاً محضًا من غير فائدة، وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتًا، فنقول: قد بينا أن قولنا: (إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان): يقتضي ظن عدم ذلك الحكم في الحال، فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال، مع أن القياس متفرع على تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل، وبين القياس، الذي هو الفرع، ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح الأصل على الفرع؛ فوجب القطع ها هنا بسقوط القياس.
وثالثها: أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللاً بالوصف الفلاني، وذلك الظن محال؛ لما سيأتي في الباب الثاني: أن تعليل الحكم الشرعي محال.
الفرقة الثانية: الذين سلموا أن القياس يفيد الظن؛ لكنهم قالوا: لا يجوز التكليف باتباع الظن؛ قالوا: لأن الظن قد يخطئ، وقد يصيب؛ فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون خطأ؛ وذلك غير جائز.
الفرقة الثالثة: الذين قالوا: يجوز التكليف بإتباع الظن؛ لكنه غير جائز ها هنا؛ قالوا: لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين، مع القدرة على أعلاهما؛ وذلك غير جائز، إنما قلنا:(إنه اقتصار على أدون البابين) لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس، وإنما قلنا:(إنه مع القدرة على أعلاهما) لأنه لا امتناع في التنصيص على أحكام القواعد الكلية.