وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي- رضي الله عنه- فهي على وجوه:
أحدهما: أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا، وفي كتبه الجديدة شيئا أخر، والناس نقلوهما دفعة واحدة، وجعلوهما قولين له: فالمتأخر كالناسخ للمتقدم، وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين: أما في العلم: فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب، والبحث، والتدبر.
وأما في الدين: فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شيء، أظهره؛ فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله، وترويج مذهبه، بل كان منتهى مطلبه به إرشاد الخلق إلى سبيل الحق.
وثانيها: أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد، ونص على الترجيح، كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين:(وبهذا أقول، وهذا أولى، وبالحق أشبه).
وأيضا، فقد يفرغ على أحدهما، ويترك التفريع على الأخر؛ فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عندهم.
وأيضا: فربما نبه في أخر كلامه على الترجيح؛ لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى آخره، وقد يمل فلا؛ ينتبه لموضع الترجيح.
وثالثها: أن يقول: (في هذه المسألة قولان) ولا ينبه على الترجيح ألبتة، فها هنا احتمالان:
أحدهما: أنه قال: (في هذه المسألة قولان) ولم يقل: (لي فيها قولان) فيمكن أن يكونا قولين لبعض الناس؛ وإنما ذكرهما، لينبه الناظر في كتابه على مأخذهما، وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما، ولأنه لو لم يذكرهما، فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته، إلا أنه لا يمكنه القول به؛