ترى أنا نجعله حكما شرعيا؟ ولهذا لا يصح رفعه إلا يصح النسخ به، ولولا أنه بعد ورود الخبر، صار شرعيا، وإلا لما كان كذلك.
الثاني: قال القاضي عبد الجبار: الخبران، إذا كان أحدهما نفيا، والآخر إثباتا، وكانا شرعيين، فإنهما سواء، وضرب لذلك أمثلة ثلاثة:
أحدها: أن يقتضي العقل حظر الفعل، ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه.
وثانيها: أن يقتضي العقل وجوب الفعل، ثم ورد خبران في حظره وإباحته.
وثالثها: أن يقتضي العقل إباحة الفعل، ثم ورد خبران في وجوبه وحظره.
واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل في شيء من الأحكام بالقضاء؛ بالنفي والإثبات، بل ذلك لا يستفاد إلا من الشرع؛ وحينئذ: لا يكون لأحدهما مزية على الآخر، وأما على مذهب المعتزلة، فلا يتم ذلك؛ لأنه لا بد في كل نفي وإثبات متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا.
بيانه: أن الإباحة تشارك الوجوب ففي جواز الفعل، وتخالفه في جواز الترك، وتشارك الحظر في جواز الترك، وتخالفه في جواز الفعل، فهي تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر، وإذا ثبت هذا، فنقول: إذا اقتضى العقل الحظر، فقد اقتضى جواز الترك أيضا؛ لأن ما صدق عليه أنه محظور، فقد صدق عليه أنه يجوز تركه، فإذا جاء خبر الإباحة والوجوب، فالإباحة: إنما تنافى الوجوب من حيث إن الإباحة تقتضي جواز الترك، لا من حيث إنها تقتضي جواز الفعل؛ لكن جواز الفعل هاهنا، كما عرفت: حكم عقلي؛ فثبت أنه لابد هاهنا في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه، فليعمل فيه كما في المثال الأول.