وإن كان الثاني: فهو محال؛ لأنه: إما أن يكون هناك حد ما، متى لم يصل إليه لم يكن معذورًا، وإذا وصل إليه، لم يكلف بالزيادة عليه، وإما ألا يكون الأمر كذلك:
فإن كان الأول: وجب أن يكون من لم يصل إلى ذلك الحد المعين مخطئًا، ومن وصل إليه، يكون مصيبًا، وهذا خلاف الإجماع؛ لأنه لم يدع أحد من الأمة حدًا معينًا في الاجتهاد بحيث إن المجتهد، متى لم يصل إليه، كان مخطئًا، وغير معذور، ومتى وصل إليه، كان مصيبًا.
وأما الثاني، وهو: ألا يكون هناك حد معين؛ فحينئذ: لا تكون التخطئة عند بعض المراتب أولى منها عند بعضٍ، فإما ألا يخطئ أصلاً؛ فيكون العمل بالظن، كيف كان، ولو مع ألف تقصير مصيبًا؛ وهذا باطل بالإجماع، أو لا يكون مخطئًا؛ إلا إذا وصل إلى النهاية الممكنة؛ وهو المطلوب.
الطريقة الثالثة: المجتهد يستدل بشيءٍ على شيءٍ، والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب، واستحضار العلم بالشيء متوقف على وجود ذلك الشيء، فالاستدلال متوقف على وجود الدليل، ووجود ما يدل على الشيء متوقف على وجود ذلك الشيء، والاستدلال على الشيء يتوقف على وجود المدلول؛ لن دلالته عليه نسبة بينه وبين المدلول، والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على كل واحدٍ منهما، فوجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب، والظن متأخر عن الاستدلال؛ لأنه نتيجته وأثره، فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن، كان المتقدم على الشيء بمراتب - نفس المتأخر عن الشيء بمراتب؛ وهو محال.