توقفنا في اللقاء الأخير مع آيات هذه السورة المباركة عند هذا الحوار الكريم بين مريم وجبريل عليهما السلام، حينما خلت مريم بنفسها لشأن من شئونها الخاصة بها في هذا المكان الشرقي البعيد، وضربت الحجاب بينها وبين أعين الناس جميعاً، وفي هذا المكان الشرقي البعيد، وفي هذه الخلوة الكاملة التامة التي ضربت فيها الحجاب بينها وبين أعين الناس، إذ بها تفاجأ بمفاجأة عنيفة تهز القلب وتزلزل الفؤاد، إنه رجل سوي! بشر كامل مع مريم العذراء الطاهرة في هذه الخلوة الكاملة! وإذ بها تنتفض انتفاضة العذراء التي هُددت في عرضها، رجل وهي لا تعلم عن هذا الرجل شيئاً! فسرعان ما استجارت واستعاذت بالله جل وعلا قائلة:{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}[مريم:١٨] إن كنت ممن يتقي الله جل وعلا، وتزلزله كلمة الاستعاذة بالله عز وجل، فكم من الناس من يذكر بالله ولا يخشع قلبه! وكم من الناس من يوعظ ولا يتعظ! {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الرعد:١٩].
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً}[مريم:١٨] فجاءتها البشارة الطيبة التي نزلت على قلبها نزول الندى على الزهرة الظمأى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}[مريم:١٩] وهنا ترد مريم على هذه البشارة الطيبة رد الأنثى المهددة في عرضها وشرفها بمنتهى الصراحة والوضوح الذي لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها تقول:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[مريم:٢٠] فيأتيها الجواب واضحاً وضوح الشمس في ضحاها: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}[مريم:٢١] أي: إنه أمر يسير أمام قدرة الله جل وعلا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:٨٢]{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}[مريم:٢١] أي: علامة على عظيم قدرة الله جل وعلا، فالله له مطلق القدرة، وله كمال القدرة، وله تمام القدرة، فهو الفعال لما يشاء -كما يقول صاحب معارج القبول - كيف شاء، في أي وقت شاء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:٨٢].
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}[مريم:٢١] أي: علامة على كمال ومطلق قدرة الله جل وعلا.
وأنا أقول دائماً: إن من كلف نفسه أن يبحث عن حدود قدرة الله كمن كلف نملة ضعيفة أن تنقل جبلاً عملاقاً من مكان إلى آخر؛ فقدرة الله لا تحدها حدود، فله مطلق القدرة وكمالها وتمامها، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فخلق الخلق، وبعث الخلق -في كمال قدرته- كنفس واحدة سبحانه وتعالى، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما من جبل على ظهر هذه الأرض إلا ويعلم الله ما في وعره، ولا بحر على سطح هذه الأرض إلا ويعلم ما في قعره، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[فاطر:١١].
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}[مريم:٢١] اختارك الله يا مريم ليعرض على البشرية من خلالك المعجزة الكبرى؛ لأنه إذا كان قد خلق آدم من غير أب وأم، وخلق حواء من أب دون أم؛ فإنه سيخلق عيسى من أم دون أب، ويخلق سائر البشر من أم وأب؛ لتظهر قدرة الله جل وعلا في جزئية الخلق، وليعلم الناس جميعاً أن الله على كل شيء قدير.